الثلاثاء، 15 ديسمبر 2015

                   الوالد عمر محمد جامع  بخت      (عمر شاطر)

1935-1993
 

النشأة بالجزيرة أبا

نشأ الوالد عمر وهو طفل يتيما بعد وفاة والده محمد جامع وهو لم يتجاوز الخامسة من عمره بعد، ضمن اربع أخوات هن بالترتيب: حليمة محمد جامع، مريم محمد جامع، ثم عمر ، ومن بعده أصغر الاخوات عائشة محمد جامع.  حدثت الوفاة فى منطقة التبون فى الحدود بين كردفان ودارفور فى رحلة هجرة بعض قبائل دارفور الى الجزيرة ابا تلبية لدعوة الامام عبد الرحمن المهدى الذى اراد ان يحي تراث أبيه محمد أحمد المهدى، فيما عرف لاحقا بالمهدية الجديدة (Neo-Mahdism)، وقد كان ذلك فى مطلع القرن العشرين.   وعندما وصل الجزيرة أبا فى رفقة والدته "خادم الله بت نيل" ضمن مجموعة من المهاجرين من دارفور كان من بينهم "أبو تونه"، وتونة هى زوجة الجد أحمد مسبل حيث اوصلهم الى الجزيرة أبا وأشرف على تسليم الطفل الذى توفى والده فى الطريق الى  السيد الطيب  المهدى، حيث تم تقييده فى سجلات "العمال" وفق وصية والده. والتحق بالخلوة كبقية أقرانه فى تعلم القراءة والكتابة وحفظ من سور القرآن حتى سورة "محمد". ثم انخرط فى تنظيم الشباب المعروف ب "النظام"، وقضى فيه عدد من السنوات.
وبعد فترة النظام يتخرج الطالب ويلتحق بعمل ما وفق تصنيفه هل هو من "العمال" ام من "الانصار". الطفل عمر التحق بالعمل كمساعد للمشرفين على أعمال "الجناين"، حيث يقوم هؤلاء بجرد الانتاج اليومى من الفواكه وتقييده تمهيدا لتسويقه خارج الجزيرة أبا. ولم يدخل المدرسة لان تصنيفه من "العمال" الذين يلتحقون بالاعمال مباشرة دون المرور بمرحلة المدرسة. غير أنه استفاد من وجود أخيه ابن عمه "شريف" الذى يكبره سنا والذى ذهب الى المدرسة، فى التدارس معه فيما تعلمه فى الصف، ما ساعده فى تعزيز قدراته على القراءة والكتابة التى تعلمها فى الخلوة. ويبدو انه يتمتع بقدر من الذكاء فى سرعة التعلم حتى اطلق عليه رفقاءه اسم "عمر شاطر". كنت اسمع هذا الاسم كثيرا فى "ارض الشفاء" من العم ضحية الذى كان يسكن بجوار الحاجة "مريم محمد جامع" شقيقته الاكبر.
المغادرة الى امدرمان  "اجزخانة ابراهيم قاسم"
ويبدو انه عندما بلغ سن المراهقة حيث يبدأ الانسان فى إثبات ذاته، حدث خلاف ما، بينه وبين رئيسه واسمه "محمد عبد السلام"، وعلى إثر هذا الخلاف قرر سريعا الهرب من ضغط العمل ومطلوباته الى امدرمان التى سبقه اليها عدد من الاهل والاقارب لابد انه كان على علم باماكن وجودهم وعلى الاقل اخبارهم. تسلل فيما يروى هو الى بلدة "ربك" لوحده قاصدا القطار الذى سيقله الى امدرمان التى وصلها وهو ان لم يكن قد رآها من قبل، ولكن يبدو انه كان على ثقة من نفسه فسرعان ما دبر نفسه وبحث عن مكان يقيم فيه ومن ثم يبحث عن عمل. وارجح انه نزل لاول مرة لدى بابكر سليمان سبيل كونه الاقرب له رحما. وبدأ يبحث عن عمل فما لبث ان وجد فرصة عمل كبائع أدوية بصيدلية ابراهيم قاسم فى سوق امدرمان جوار مقهى جورج مشرقى الشهير. وكان ذلك يتطلب تركيب بعض الادوية والمركبات الكيميائية. وبعد ان تأقلم على جو المدينة بدأ يطرق باب التعليم الذى كان ينقصه. فكان يختلف الى مدارس مسائية تعلم فيها مبادئ اللغة الانجليزية. وعمل فوق ذلك فى سينما ادرمان كبائع تذاكر لزيادة دخله.
ويبدو ان أسرته بالجزيرة أبا قد علمت بأمره، فعمد عمه آدم جامع الى زيارته بامدرمان لدى بابكر بشر الذى بعد ان ترك الخدمة العسكرية عمل كسائق تاكسى بمدينة امدرمان، وكان يسكن فى حى ود نوباوى. المعروف  ان بابكر الشهير ب "زغو" انه كان متمردا على إرث الانصارية عموما، وكثير التهكم على رفقاءه الذين انخرطوا فى خدمة ادائرة المهدى ، بما فيهم شقيقه عبدو سليمان. ويبدو ان بابكر كان فى غاية الاناقة والوسامة وله تسريحات شعر مميزة مكملة للهندام، وهى جميعا خصائص لم تكن ضمن اهتمامات أهالى ابا فى التقشف والزاهد فى مباهج الحياة الدنيا وتناقل البعض قفشات بابكر وهو ينظر الى حال آدم جامع - وهو جده -  يرثى فيه رقة الحال وهم يركبون معه التاكسى وهو فى كامل هندامه ومعهم ركاب آخرون، ربما شعر ببعض الحرج ولكن ذكاءه يتجلى فى الخروج من هذه المواقف بطرائف هى مدعاة للفكاهة والتندر.
 ومن هذه الطرائف يحكى لى الوالد انه فى النظام عادة  يتحلق الاولاد فى حلقات من خمس او عشر فى أوقات الطعام وينتدبون ربما أكبرهم لاحضار الطعام الذى يكفى العدد المتحلق. ففكر بابكر فى حيلة تمكنه من الحصول على طعام بدون ان يكون معه احد، فذهب مباشرة الى الشخص الذى يعمل على توزيع الطعام الذى عادة ما يسأل المندوب عن من معه من الاولاد. فكانت أجابة بابكر بثقة شديدة ان : معى بابكر وسليمان وسبيل وبخت. فما كان من الشخص المسكين المزحوم من كثرة طالبى الطعام الا ان أعطاه كامل حصة الخمسة. فذهب بها يملئه السرور. الاسماء التى ذكرها هى اسمه واسم والده وجده....الخ.
وعندما زار آدم جامع ابنيه بابكر وعمر اطمئن على احوالهم وقفل راجع. وبعد فترة فكر الوالد فى الزواج، وقد كان فى ذهنه ابنة الحاج خميس آدم وتدعى طيبة. فذهب آدم جامع لخطبتها غير ان والدها رهن موافقته على الزواج  بان يقبل العريس الاقامة بالجزيرة ابا عاملا منقطعا لخدمة دائرة المهدى، الشرط الذى افتقده الوالد عندما خرج من الجزيرة مغاضبا بعض رؤسائه. فاستشار والدته فخطبت اليه الحاجة جدة مهدى وهى من العركيين من ريفى سنجة تربط أهلها علاقة صداقة بأحمد صبر من كبار الانصار بالجزيرة أبا. فتزوجها الوالد مطلع الخمسينات وأتى بها الى امدرمان. كانت مجموعة من الشباب يسكنون سويا فى حى العرضة بامدرمان من بينهم على محمد وزوجته هجرة حسن مسبل، وكذلك احمد مسبل وزوجته الحاجة تونه، وعبد القادر حسن مسبل وزوجته نوره. المنزل مستأجر مقسم الى غرف لكل شخص غرفة فى هذا المنزل.
انجبت الحاجة جدة مهدى ابنهما الاول محمد وهو الان طبيب أختصاصى واستاذ مشارك فى كلية الطب بجامعة الزعيم الازهرى. ولكن لم يستمر هذا الزواج كثيرا فافترقا بعد طفلهما الاول. حيث ذهبت هى الى اخوانها وهم محمد احمد مهدى وعلى مهدى والزمزمى الى قرية "كجيك"، ريفى سنجة حيث لا تزال تقيم. وفكر الوالد فى الزواج مرة أخرى فخطبت له والدته والدتنا الحاجة حواء محمد عثمان، ووالدها الجد محمد عثمان أرجه "أبوحوا" لم يكن له كبير اهتمام بالانصارية كعقيدة سياسية، ولم يعمل بدائرة المهدى. كان هو وصديقه حجر سبيل عمال صحة معنيون برش المنازل بالمبيدات الحشرية. وقد قضى محمد عثمان الجزء الاكبر من حياته ببلدة "قلى". تم الزواج بالجزيرة أبا وقفل الوالد راجعا الى امدرمان حيث لحقته زوجه بعد حين.
ويبدو انه فى هذا الاثناء قد طور قدراته العملية بعد ان اكتسب خبرة فى العمل الصيدلانى ووسع من مداركه فى التعليم المسائى بمدارس امدرمان، انتقل الى عمل فى شركة التيمان يبدو فى مسك الدفاتر، وكان ذلك اول عهده بالعمل الحسابى. ويذكر محمد عمر جامع ان محمد جماع كان قد رشح الوالد للعمل مع بعض معارف ومن خلال المكاتبات علمت انه عمل مع السيد عبد الرحمن الاسد.
 الدويم 1955-1963"راتب شهرى 25 جنيه مصرى"
بعد زواجه الثانى انتقل الوالد الى العمل فى مدينة الدويم  كمحاسب للشراكة بين عبد الرحمن الاسد والجنيد عثمان. حيث وقع الوالد عقد عمل فى العام 1955  ويبدو ان هذه الشراكة هى استثمار زراعى فى مشاريع لزراعة القطن وقد انتهت بوفاة عبد الرحمن الاسد فى العام 1963، وقد عمل فيها الوالد لمدة تقارب العشرة سنوات راتب شهرى قدره 25 جنيه مصرى هكذا فى العقد، كافأه فيها الورثة عن فترة خدمته مبلغ 75 جنيه سودانى.
وفى الدويم انجبت الحاجة حواء اختنا الكبرى اخلاص وبعدها فائز ثم منى وفاطمة، وكل هؤلاء مولودون بالجزيرة أبا، حيث الحاجة فاطمة حسن مسبل والدة الحاجة حواء (عدا منى المولودة فى الدويم) . وذلك وفق التقاليد السودانية التى تقتضى ان تضع المرأة مولودها او مواليدها بمنزل والدتها، وقد كان ذلك مهيئا للوالدة، لاسيما وان الجد محمد عثمان متزوج من زوجة أخرى أصغر هى الحاجة زهرة صالح وتقيم لحظتها فى بلدة قلى. وعليه فان المنزل يتسع لذلك. والمنزل الذى كانت تقيم فيه الحاجة فاطمة حسن فى الواقع هو لوالدتها زهرة بت ابراهيم ود الشاهر التى تزوج بها احمد حسب الله والد الحاجة حواء المعروفة ب "حواء لبن". ولذلك ملكية المنزل الان هى للجدة حواء لبن. الشاهد ان الوالدة اثناء اقامتها مع الوالد فى الدويم تأتى لوالدتها للوضوع، ثم ترجع الى الدويم.
فى الدويم كانت الاسرة تسكن بمنزل جوار زاوية الانصار وهم فى الحقيقة غالبية أهل الدويم. وفى سبق الوالد فى الدويم من الاهل عبد الله موسى والد بثينة عبد الله موسى وموسى عبد الله، وكذلك الشخصية المشهورة محمد صالح عبد الرحمن وشقيقه عبد الله عبد الرحمن وابنته رحمة (زوجة عيسى احمد عطية) التى كانت صغيرة، وعندما ترسلها والدتها الى الدكان وتضع لها النقود فى يديها وتوصيها الا تفتحها الا فى الدكان كانت كثيرا ما تضيع هذه القروش فترجع قافلة الى والدتها قائلة "ايدى كانت مغمدة جيت لقيتها فاتحة"، مبررة بذلك ضياع النقود.
وفى الدويم قرر الوالد الحاق محمد عمر بمدرسة بخت الرضا التى كان يتدرب فيها المعلمون، فقضى فيها عام واحد ولكن الوالد لم يقتنع بحكاية تدريب المعلمين فنقل محمد للدراسة بالجزيرة أبا بمدرسة دار السلام الاولية، وهو أصلا كان مقيما مع الجدة خادم الله بنت نيل. وكذلك اخلاص عمر كانت تقيم فى الجزيرة ابا مع الجدة فاطمة حسن منذ صغرها الى ان دخلت المدرسة. وفى الدويم كان الوالد كثير السفر الى الخرطوم فى مأموريات وكان لحظتها اسحق ابراهيم بالشور على مسافة معقولة من الدويم، فكان الوالد يذهب الى الشور ليأخذ اسماعيل اسحق وهو بعد صبى، ويتركه فى الدويم مع الاسرة الصغيرة المكونة من حواء محمد عثمان وابنها فائز ريثما يعود من مأموريته فى الخرطوم طالت ام قصرت.
وفى الدويم ايضا كان الوالد يجتهد فى زيادة دخله فى العمل ايضا بسينما الدويم المملوكة لاحد الخواجات كمحاسب ، ولم ينس مواصلة تعليمه فكان ملتحقا بدراسة المحاسبة بالمراسلة خارج السودان، حيث كان يراسل مدرسة الفنون . وقد كان له اطلاع على الادب المصرى المنتشر حينها، وقد ذكر لى كيف انه استمتع بقراءة كتاب سيد قطب "امريكا الضاحكة"، وسيد كان أديبا أريبا قبل اضمامه الى تنظيم الاخوان المسلمين. قد عرف طه حسين كأديب معروف فى الساحة العربية ثم وزير للمعارف ، وكذلك له المام بالاديب عباس محمود العقاد.
وفى أثناء فترة الوالد بالدويم جرت انتخابات عامة فاز فيها حزب الامة وتم تشكيل حكومة بقيادة عبد الله خليل 1957، وبعدها بقليل ولد له مولود اسماه "فائز"، ولقد كان كل مولود او مولودة فى ذلك الزمن لاب من حزب الامة يسمى فائزا او فائزة.  لانها فى الحقيقة المرة الاولى التى يفوز فيها حزب الامة بعد الاستقلال هذا الفوز الذى انتزعه انتزاعا من الاحزاب الاتحادية. ولذلك كان فوزا مجلجلا. غير ان الطفل فائز عندما بلغ الاربعة اعوام من عمره ألم به "مرض التايفويد"، وهو مرض فى مطلع الستينات يعتبر من الامراض الخطيرة، هذا المرض ألزم الطفل المستشفى لفترة طويلة، كانت تمارضه جدته فاطمة حسن علاوة على والدته. ويقول الوالد ان المرض أخذ من الطفل كل مأخذ حتى ظننا أنه مفارق هذه الحياة، بعد ان تساقط شعره وذبل جسده وتفطر جلده من الحمى. وكان الطبيب يوصى له بسكر جلكوز لا يزال الطفل يذكر طعمه بعد خمسة عقود من هذه الحادثة.  والمستشفى هو نفسه الذى كان قد استقبل الجد آدم جامع لفترة عندما اصيب بالحمى وكان يمارضه الوالد الذى كان يقضى الليل متخفيا تحت سرير الجد آدم، حيث كان المبيت فى عنابر المرضى مخالفة للوائح المستشفى ربما.
وزار الوالد بالدويم الاخ يوسف شاوة فى رحلته للبحث عن عمل، ويحكى ان يوسف كان يهتم بهندامه غاية الاهتمام حتى اسماه اقرانه "تيتو" على الرئيس اليوغسلافى آنذاك فى فترة الستينات العصر الذهبى لاوربا الشرقية الدائرة فى الفلك الروسى  والحرب الباردة على أوجها بين الوتين العظميين. وكان العمل المتاح له هو وظيفة "زيات" فى طلمبات رفع المياه لرى القطن حيث لابد من التعامل مع زيت الماكينات، فكانت موازنه جد صعبة ولكن الاخ يوسف يتمتع بذكاء اجتماعى يجعله يتماشى مع كل هذه التناقضات باريحية أرباب العمل كانوا يقولون للوالد "ولدك ده انضف مننا" فكيف يشتغل فى الزيت. فى اشارة الى نظافة ملابسه، وكان لا يفارقه منديل .وتزوج يوسف من قسمة ابراهيم سليمان(والدتها حواء سبيل هى شقيقة العمة نايرة سبيل ) وأسكنها فى الغرفة المجاورة لغرفة الوالد فى الدويم أول الامر. وكان من أقرانه الصادق آدم محمد حسين (والد عبد الله الصادق ومرام الصادق ) وهو صاحب نكته وبديهه حاضرة، كان يعمل فى مشروع يسمى الهشابة على الضفة الشرقية للنيل الابيض الى جهة الشمال من قرية أبى حبيرة.
وفى الواقع الدويم مطلع الستينات كانت فى أوج عظمتها التى تستمدها من "بخت الرضا" حيث تدريب وتفريخ المعلمين ولحظتها كان كبار التربويين قد عملوا فى معاهدها ابتداء من الدكتور عبد الله الطيب، عبد الرحمن على طه، سرالختم الخليفة. وكان على بخت الرضا وهى القرية فى الطرف الشمالى من المدينة علاوة على تدريب معلمى المدارس الاولية فى السودان، انتاج وتصميم المناهج الدراسية للتعليم العام دون الجامعة فى البلاد. وهى مهام اسس لها المستعمر مؤسسة نادرة المثال فى القارة بل فى المستعمرات البريطانية. وهى مؤسسة بريطانية بامتياز ومشهود لها بجودة المخرجات. وعندما تمت سودنتها بعد خروج المستعمر منها احتفظت بروحه على مدى عقدي الستينات والسبعينات والثمانينات وفقدت بخت الرضا دورها المحورى فى رفد العملية التعليمية مطلع التسعينات. وتحولت من بعد ذلك الى جامعة بخت الرضا.
فى هذا الاثناء ولدت المولودة منى عمر بمدينة الدويم وخلافا للمرات السابقات كان على حاجة فاطمه حسن المقيمة بالجزيرة اللحاق ببنتها فى الدويم للمساعدة فى الولادة.
انتهى تعاقد الوالد مع رجل الاعمال عبد الرحمن الاسد بوفاة الاخير فى العام 1963. وفكر الوالد من بعد ذلك البحث عن فرصة عمل بعد عشرة سنوات قضاها فى الدويم. وكان لحظتها أسحق الخليفة شريف قد وجد تمويلا من البنك العثمانى (يبدو ان البنك له اصول تركية كما يشير الاسم) لزراعة القطن فى مشروع الزليط الزراعى جنوب كوستى، وكان شرط التمويل هو ان ادارة المشروع تكون من طرف البنك، أما اسحق صاحب الامتياز فعليه توفير بقية الطاقم الوطنى الادارى والحسابى.
وعلى ذلك استقدم البنك السيد محمود رسمى الخليلى المصرى الجنسية كمدير للمشروع، واستقدم اسحق الخليفة شريف السيد عبد الصادق محمد سعيد الاسد كمفتش زراعى للمشروع، وتم ترشيح الوالد كمحاسب للمشروع. طبعا كنت أبحث عن من رشح الوالد لهذه الوظيفة ولكنى لاحظت ان المخدم السابق للوالد هو عبد الرحمن الاسد رجحت ان هذه الاسرة هى صاحبة الترشيح، غير ان د. جامع يرى ان الذى رشح الوالد هو محمد جماع المعروف لدى دوائر الانصار.
مشروع الزليط 1963- 1968 "السفر الى القاهرة"
هذا المشروع يقع على بعد 20 كيلو تقريبا جنوب كوستى ويعد من أكبر المشروعات الزراعية فى الضفة الغربية للنيل الابيض فى الاطراف الجنوبية للولاية. وعندما وصل الوالد مشروع الزليط وجد المدير المصرى وعبد الصادق المفتش، ويبدو انه سبق الوالد فى الوظيفة محاسب اسمه  عبد العزيز الصاوى وكانت يعمل باللغة الانجليزية، فما كان من الوالد حسب كلماته  "....عملت خط على شغل الصاوى وبديت منو وجديد....".
والزليط منطقة خلوية بالطبع الوابور رافع المياه على الضفة الغربية للنيل وحوله مبانى إدارة المشروع والورش والمخازن. ومساكن منفصلة للعمال متجاورة، وللمدير منزل منفصل ملحقة به حديقة فى شكل فيلا تبعد عن مساكن العمال، ولصاحب المشروع اسحق الخليفة شريف منزل منفصل على بعد 500 متر منه، وللوالد المحاسب منزل منفصل بين منزل المدير المصرى ومنزل صاحب المشروع. كل هذا المجمع على ضفة النيل الغربية يسمى "البيارة". اما قرى المواطنين الاصليين من اهالى المنطقة فهى على بعد خمسة كيلومترات الى الغرب من الضفة. القرية الاقرب للبيارة والاكبر هى قرية "عسولة" وهى سوق ومحطة للبصات العابرة الى مناطق الرديس والنعيم. وهناك قرى أخرى مجاورة حلة "اولاد حسن"،  "والجلجالة"، "أم حيايا".....الخ. وهى جميعا على طريق ترابى موسمى يكاد ينقطع فى الخريف.
انتقلت الاسرة الصغيرة المكونة من الوالدة حواء، وفائز، ومنى، بينما كان الابن الاكبر محمد مع الجدة خادم الله فى حى ارض الشفاء  والبنت الكبرى اخلاص مع الجدة فاطمة حسن فى حى الغار (كلا الحيين) بالجزيرة ابا، انتقلت هذه الاسرة الصغيرة الى الزليط فى نهاية 1963 اوائل 1964، فى البيارة فى منزل فسيح مبنى على الطراز الانجليزى الفخم فى ذلك الزمان، فى تناسب مع طبقة الموظفين التى تعتبر طبقة مميزة من ناحية الدخل والامتيازات الاخرى ومنها السكن المهيأ. والملاحظ ان المجمع السكنى للموظفين هذا ليس فيه مدرسة نسبة لقلة عدد السكان الذين يتركزون فى القرى مثل عسولة التى بها مدرسة أولية لعلها مختلطة.
( العام 1964 فى وسط الصورة محمود رسمى الخليلى وعلى يساره عبد الصادق الاسد وعلى يمينه الوالد وهم  ادراة مشروع الزليط الزراعى)
استلم الوالد وظيفته وباشر مهامه كمحاسب بحرفية عالية، كان همزة الوصل بين المشروع والمؤسسة الممولة للمشروع البنك العثمانى بكوستى. وقد سحب البنك المدير المصرى بعد عام او عامين من وصول الوالد. وربما كانت الصورة الثلاثية التى يظهر فيها الوالد وعبد الصادق ومحمود رسمى الملتقطة فى العام 1964 والله اعلم ذكرى بمناسبة رحيل المدير رسمى الخليلى. استلم بعده كمدير عبد الصادق محمد سعيد الاسد.كان الوالد كثير السفر الى كوستى لاغراض استجلاب الكاش من البنك للصرف على العمليات الزراعية فى مواقيتها المعلومة. وتحدث احيانا مشادات بين المزارعين والادارة ربما تصل لدرجة التشابك بالايدى. وفى حادثة مشهورة إثر نزاع بين المزارعين والادارة ان هجم المزارعون على المدير والوالد وكانا فى مكتبين متجاورين اوسعاهما ضربا بالعصى والكراسى، وقد دافعا عن نفسيهما قبل ان ينتهى العراك بغير خسائر من الطرفين.
وبما ان منطقة البيارة خلوية الطابع تعيش فيها الحشرات والثعابين بانواعها واشكالها واحجامها المختلفة. ومنها احجام كبيرة جدا وغليظة قتل منها واحدا يوما ببندقية الصيد من كبر حجمه. وهى مخيفة ولكن نادرا ما نسمع انها لدغت احدا من الناس والمعروف ان مواطنى الزليط لهم إلمام ومعرفة بهذه الانواع المسالم منها والعدوانى، وكيفة التعامل مع كل نوع، ويشاع ان بعضها من الجن. وكثيرا ما وجدت الوالدة ثعبانا نائما فى كانون إعداد/عواسة الكسرة فى الصباح بعد ان تسلل الى غرفة خارج المنزل تستخدم لهذه الاغراض.

الحياة الاجتماعية فى الزليط

عندما وطأت قدما الوالد مشروع الزليط تعرف على عدد من الاسر من الاقارب منهم بقرية عسولة "جبارة خميس" الذى أصبح لاحقا شيخ القبيلة وزوجته المعروفة ب "مريم الليمون"، وعندما علموا بقدوم الوالد الذى سكن لوحده قبل ترحيل الاسرة، كانوا يرسلون له وجبات الغداء من عسوله. وكذلك العم "بشرى آدم أرباب" واسرته، وكان "سليمان بخت" وزوجته المرحومة أم سلمه احمد صبر الذى كان يسكن بقرية الشلشالة، وأم سلمة نذكر انها فى مشوار لهم مع الوالد من او الى كوستى، وقد كان السفر يستغرق عدة ساعات لا سيما فى الخريف مع ان المسافة لاتتجاوز 15 كيلو متر، ويبدو ان أم سلمة قد أخدها النوم وهى ترضع احد مواليدها، فانفتح باب العربة اللاندروفر، وكانت تركب فى مقعد بجوار الباب، فوقعت من العربة ولولا لطف الله لحدث لها او لطفلها مكروه. واسرة اخرى هى اسرة محمود النور فى قرية أخرى مجاورة.  وكان فى البيارة ايضا العم آدم تقل الله وزوجته رحمة أحمد صبر وابنهم الهادى آدم.
وبجانب قرى الموطنين من القبائل العربية اولاد حسن...الخ توجد قرى للشلك وهم مواطنون أصليون فى هذه المناطق تسمى قرية الشلك "الدانكوج". ولهم احتفالات موسمية يطوفون وهم متحلقون ويرقصون فى مجموعات على منازل الموظفين، لا أدرى كيف كان التجاوب معهم ولكن المنظر لا يزال منطبع فى ذهنى، وهم فى ملابس موشاة بالسكسك لا يغطى سوى العورة.
ومما اذكر فى البيارة انه فى مناسبات عيد الاضحى يخرج عدد كبير من الجيران الى ظل شجرة عرديب ظليلة بجوار ورشة الوابورات ويذبحون الاضاحى ويقضون النهار فى الانس وفى لعب الكوشتينة، وتتوثق العلاقات بينهم لا سيما وانهم جميعا بعيدين من أهلهم فى هذه المنطقة الخلوية التى أتوها من أجل العمل.
وأذكر ان الوالد طلب من إدريس سليمان حقار وقد كان نجارا ماهرا بعض الاثاث، فما كان منه الا ان قدم الى الزليط واستجلب معه جميع معداته، ونصب معينات العمل من تربيزة نجارة وخلافه تحت ظلال الاشجار الوارفة، وبدأ العمل خصيصا للاثاث الذى طلبه الوالد ومما أذكر تربيزة "للسفرة" جميلة كانت موجودة الى عهد قريب. واستقبلت الزليط ايضا مجموعة من طلاب السنة الثانية معهد شمبات الزراعى فى برنامج للتطيبقات العملية لما يدرسون فى نذكر منهم د. سلاف الدين صالح الذى اصبح الان من قيادات الحركة الاسلامية وتقلد عدد من المناصب آخرها مفوضية نزع السلاح. وكنت كلما ألتقيه  بالطبع بعد ثلاث عقود من قدومهم الزليط حيث تعرف على فقط بالاسم، يسألنى عن الوالد ويقول لمن معه "....أنا أعرف فايز ده من ما هو صغير..".
أما الجار مدير المشروع "محمود رسمى" المصرى الجنسية فكان يسكن هو وزوجته ونسميها "الحاجة" فى منزل واسع جدا ولم يرزقا باطفال والمنطقة موحشة لا سيما فى ليالى الخريف المظلمة، وخدمات الكهرباء تتمثل فى مولد كهرباء يعمل لساعات محدودة فى اليوم. فكانت الحاجة تجلس لوحدها طوال النهار مشغولة بتطريز وحياكة وعمل فنائل شتوية، الى ان يأتى زوجها من العمل. فكانت فى الامسيات تخرج هى والوالدة وكنت اصحبهما الى مسافات خارج المنازل فقط للترويح وكسر الروتين النهارى. وبعد ان غادر هذا المدير بنهاية فترته سكن فى منزله المفتش الجديد "على عيسى جفون"، السياسى المعروف والنائب البرلمانى عن "حزب الامة"، وهو رجل شاب شديد الشبه بالسيد الصادق المهدى.
وبعد مغادرة المدير المصرى محمود رسمى الى مصر، بعد عام واحد من قدوم الوالد للمشروع، كان قد اشتد المرض الذى ألم بالعم شريف بعد ان اختلف لسنوات على الاطباء السودانيين فى الخرطوم ، فقرر السفر الى القاهرة لاستئناف العلاج. وعند وصوله القاهرة وتشخيص المرض "التهاب فى المرارة"  قرر له الاطباء عملية جراحية، وفق الخطاب الذى خطه الى الوالد فى يونيو 1964. واردفها ببرقيتين خلال اسبوع واتفق ان يلحق الوالد بالعم شريف فى القاهرة، بعد ان كان المتوقع ان يسافرالاخ عبد الرحمن ابكر، ولكن يبدو عندما تقرر إجراء العملية تعدل الامر الى يسافر الوالد. وعليه استعدادا للسفر أخد الوالد اسرته الصغيرة الى الجزيرة أبا وغادر الى القاهرة. وقد وجد العم شريف مساعدة كبيرة من المدير السابق لمشروع الزليط محمود رسمى الذى قابل العم شريف قبل حضور الوالد، وقام بدور كبير استحق فيه الشكر وفق إفادة العم شريف فى خطابه الاخير الى الوالد.
صادف وجود الوالد فى القاهرة انعقاد اول مؤتمر لمنظمة الوحدة الافريقية والتى تكونت فى أديس أبابا قبل عام واحد فى سنة 1963. وقد استضاف المؤتمر الرئيس المصرى جمال عبد الناصر فى أوج عظمة شهرته وريادته فى العالمين العربى والافريقى. ويبدو ان المؤتمر قد صادف حملة إعلامية كبيرة جذبت اهتمام الوالد حتى وهو يمارض العم شريف. فكان يذكر لى مشاهداته للزعماء الافارقة الذين توافدوا الى القاهرة لاسيما الرئيس الكينى التاريخى  دانيال أروب موى وكان الوالد يقول ان هذا القائد عظيم ولكنه كان يفتقد الوسامة بشدة، والوالد طبعا قال ذلك بكلماته... ولكن "فقدان الوسامة" ...هذه فى الحقيقة  صياغة منى لكلماته.
عودا الى الزليط فإن المفتش الجديد وزوجته الحاجة "غنية" فله ما شاء الله عدد من البنين والبنات، وكان رجلا كريما وشجاعا وهى صفات قيادية كان يتمتع بها على عيسى بجدارة. وكان بحكم البيئة التى نشأ فيها قرية "الطويلة" شمال كوستى وهى بيئة شبه بدوية له اهتمام بالسعية، فكان يربى الابقار، وكانت مصدرا مهما للالبان لنا ولاطفاله. ولاحقا اشترى الوالد بقرة وارسلها مع ابقار على عيسى فى فترة الجفاف بحثا عن المراعى، ولكن البقرة لعلها قضت وهى فى الضهرة ....
وبما ان عمل الوالد شديد الارتباط بكوستى المدينة حيث البنك والخدمات الاخرى، فى احدى المرات وهو عابر فى سوق المدينة مر على دلالة لبيع منازل على نظام المزاد، فراقت له فكرة امتلاك منزل بهذه المدينة. فدخل المزاد وزاود على الاسعار وأعطى مبلغ 150 جنيها ثم مضى لحال سبيله. ويبدو ان المزاد قد رسى عليه وهو خارج المدينة. فارسل اليه الجد أحمد مسبل وكان يسكن كوستى بعد فترة يخبره الخبر، ويطلب اليه ارسال المبلغ او الحضور لاكمال اجراءات المزاد. فدفع الوالد عربونا ثم اكمل المبلغ بعد فترة. وعندما رأى المنزل بحى النصر مربع "7" بكوستى فى أقصى جنوب المدينة وكان به غرفتان "خلف خلاف" كما يقول اهلنا بكوستى وصالون. فهدم الصالون القديم وابتنى صالونا جديدا فصار المنزل غرفتين وصالون.
وفى بحلول العام 1968 كان الوالد قد قضى خمس سنوات فى هذا المشروع، تبين ان المشروع لا يحقق ارباحا كافية للمولين الذين قرروا بناء على ذلك التوقف عن النشاط الاساسى للمشروع وهو زراعة القطن، وهو قرار اشد ما يحزن له المزارعون والعاملون الذين رتبوا حياتهم عليه، والتعبير المستخدم فى التوقيف هو "....مشروع الزليط نام فى السنة دى...". نام بمعنى توقف عن العمل وعلى الجميع من ثم البحث عن وسائل معاش خارج المشروع بالنسبة للعاملين من غير المزارعين بما فيهم الوالد، أما المزارعين فهم من أهل المنطقة ربما تأثروا ولكن ليس عليهم بالضرورة الخروج من ارض المشروع.
وعلى ذلك نقول ان الوالد فقد وظيفته وعليه من ثم تدبير والبحث عن فرصة عمل أخرى، وكان لحظتها قد امتهن الحسابات وتراكمت خبراته فيها. وعند تصفية حقوقه مع مشروع الزليط تم التسوية عينا فقد تم تقييم عربة لاندروفر وبعض الاثاث حسبت جميعها ضمن حقوقه لنهاية الخدمة. وفى العام 1968 تم ترحيل الاسرة الى كوستى الى المنزل الذى كان قد اشتراه الوالد فى حى النصر مربع "7".
  حكومة الصادق المهدى وانشاء الاصلاح الزراعى
وعند قدوم الاسرة الى الزليط وبحث الوالد عن وظيفة تصادف تولى الصادق المهدى رئاسة  الحكومة السودانية وقد جاء بافكار جديدة منها انشاء مؤسسة جديدة باسم الاصلاح الزراعى. ولحسن حظ الوالد تم استيعابه فيها ولكنه نقل الى سنار حيث المكتب الاقليمى، وذهب الى سنار بعد ان استأجر منزلا بمدينة سنار التى كان اسمها ايضا "مكوار"، وهناك مدينتين يميز الاهالى بينهما يطلقون اسم مكوار على "سنار المدينة" هى على الضفة الغربية للنيل الازرق والاقرب الى خزان سنار المشهور حيث انتاج الكهرباء، وهناك "سنار التقاطع" وهى محطة للسكة حديد تتقاطع فيها الخطوط الحديدية المتجهة غربا الى كوستى ومن ثم غرب السودان، والخطوط الاخرى المتجهة شرقا والتى تنتهى الى الميناء الرئيسى بورتسودان.
سنار المدينة 1968-1972  أحداث الجزيرة أبا
خلت مدينة سنار من معارف للوالد او أقارب، المنزل الذى استأجره الوالد كان فى حى "التعايشة" فى الجزء الجنوبى من مدينة سنار الى الشمال من  حى "القلعة". وفى سنار والاسرة قد توسعت  وكان امر تعليم الابناء والبنات يحتاج الى ترتيبات سريعة. استطاع الوالد ان يرتب مدرسة لمحمد الابن الاكبر وقد كان يستعد لامتحان الدخول الى الثانوى، وكان لابد ان ينقل من "ربك" حيث كان يدرس فى مدرسة شهيرة تسمى "مدرسة دار السلام" وهى مدرسة اهلية اسسها صاحبها الاستاذ عبد الملك لتوسيع فرص التعليم لابناء ربك، غير ان ثمة مشكلة أدت الى طرد محمد من المدرسة وهو فى الصف الثالث، فاستطاع الوالد تجاوز المشكلة بان بحث له عن فرصة فى سنار، ولكن بمشقة شديدة اضطرته للذهاب الى مدنى حيث المديرية ويبدو ان المدرسة اخطرت المديرية بما حدث ولذلك استعصى الامر على الوالد ما اضطره الى معالجة الامر من مدنى.
أما بقية الاطفال فائز كان يدرس فى المرحلة المتوسطة مع جدته فاطمة، اما اخلاص فتم قبولها بمدرسة متوسطة بمدينة السوكى، دبر لها الوالد مكان للسكن واستقدم الحاجة فاطمة حسن لتعيش معها فقط من أجل المدرسة بدون اى معارف او أهل بالسوكى. وبعد عامين فى مدينة سنار ولد شريف عمر فى العام 1970. ولعل الحدث الاهم فى هذا العام فكان أحداث الجزيرة أبا بعد عام واحد من انقلاب 25 مايو 1969 والذى استولى على إثره جعفر النميرى على السلطة  فى البلاد. أما بالنسبة للوالد فان والدته خادم الله بت نيل وأختها فاطمة عربية وبالطبع عدد وافر من الاهل كانوا يقضون مضجعه وهو يراقب هذه الاحداث التى جعلته كاحد ابناء الانصار تحت مراقبة السلطات.
كنت فى المرحلة الدراسية التى تسمى الوسطى فى السنة الاولى، عندما لاحظنا فى من نافذة الفصل جمهرة كبيرة من الانصار وحركة غير عادية حول سراى الامام الهادى. لاحقا عرفنا ان مندوبا رفيع المستوى من مجلس الثورة هو ابو القاسم محمد ابراهيم دخل فى تفاوض مع الامام الهادى بعد ان حشدت الحكومة قوات عسكرية مدججة بالسلاح والعتاد فى ربك المجاورة، استعدادا للانقضاض على الجزيرة التى تجمع فيها الانصار من كل انحاء السودان. ولم تثمر المفاوضات بين الطرفين وخرج ابوالقاسم من الجزيرة ابا، وقد كانت الفرصة متاحة لاعتقاله اسيرا لدى الانصار بعد ان ناصبتهم الحكومة العداء.
وبعد فترة وجيزة حاصرت القوات الحكومية الجزيرة ابا وتم قصفها  اولا بالطيران ثم لاحقا من جهتى الشرق والغرب بالمدافع بعيدة المدى. ولا يزال الجدل محتدما فى صحة استعانة الحكومة بالطيران المصرى ومشاركة الرئيس المصرى الاسبق حسنى مبارك الذى كان لحظتها قائدا لسلاح الطيران المصرى فى قيادة الطائرة  التى هاجمت الجزيرة ابا، وتواتر معلومات عن وجود طائرات حربية مصرية فى مطار وادى سيدنا بامدرمان فى ذلك الزمان بعد النكسة فى 1968.
وطالبت السلطات الحكومية المواطنيين المدنيين عبر منشورات وزعتها من الجو الخروج من الجزيرة التى تتعرض الى مواجهة مسلحة. وخرج مجموعات من المواطنيين غير المقاتلين. ولم تخرج الحاجة خادم الله بت نيل والدة الوالد حيث كانت فى معية ابنتها العمة مريم محمد جامع. وكان الوالد يتابع هذا الامر من سنار. وكنت ممن خرج من الجزيرة مع مجموعة من الاسر فى رحلة استغرقت ثلاثة أيام الى ربك، وفى مساء اليوم الذى وصلنا فيه ربك اندلعت معركة مسلحة اخرى، اضطرتنا للخروج مرة أخرى الى الحديب على مسافة 25 كيلو جنوب ربك. بعد انجلاء هذه المعارك لحقت بالوالد وبقية الاسرة فى سنار.
ولحق الوالد فى سنار بعد فترة زميل له من أبناء الجزيرة أبا هو السيد "جبريل ابشول" واسرته، وهو من الذين عملوا فى السلك الحسابى الذى اشتهر به ذلك الجيل من الجزيراب. وتستأجر منزلا الى الجنوب من سوق سنار وله عدد من الابناء والبنات مثل الوالد فى سن المدارس والتعليم، من ابناءه النابهين عبد الرحمن جبريل وصديق جبريل فى مدرسة سنار الثانوية العريقة. وكان هو والوالد يعتبرون انفسهم من محدودى الدخل ممن يعيشون على راتب بالكاد يكفى للضروريات المعيشية غير الكمالية. والضرورية هذه من بينها إيجار المنزل الذى يشكل العبء الاكثر أهمية. فكان الوالد يحدثنى ان جبريل ربما جمع اسرته الاولاد والبنات ووالدتهم وشرح لهم حسابيا توزيع الماهية الشهرية. ولم تكن لهم مصادر دخل أخرى تخفف عنهم غلواء تكاليف إعالة اطفال وتعليمهم.
كانت للوالد عربة لاندروفر تملكها ضمن مكفأة نهاية خدمته فى مشروع الزليط الزراعى. وكانت وسيلة للحركة من والى الجزيرة ابا او داخل سنار الى ان باعها الوالد لاحد تجار مدينة سنار بمبلغ 400 جنيه وفق وثيقة المبايعة التى اطلعت عليها ضمن المستندات التى تركها الوالد. وكنت انا ومحمد فقط الاخوان الذكور بالمنزل، (شريف لم يكن قد ولد بعد). وكانت لنا رغبة فى الترفيه الدخول الى السينما وهى فى أوج عظمتها، او استئجار عجلات والذهاب الى حديقة الخزان، وهى حديقة عتيقة خلفها الخواجات بها أندر الزهور فى شكل اشجار وليس نبتات صغيرة. فكنا لانطلب نقودا من الوالد، ولكن كانت بالمنزل ثلاجة تعمل بالجاز، وتتراكم صفائح الجاز بالمنزل. فكنا نعمد الى بيع هذه الصفائح الفارغة فى السوق لتمويل حاجاتنا الترفيهية فى السينما او حديقة الخزان. وكنا نظن ان الوالد لا يعلم بذلك، ولكن الواقع انه ربما غض طرفه عن ذلك.
ومما أذكره فى سنار زيارات الاخ عبد الله خميس، والاخ محمد احمد جمعة الملقب بالسفير الذى تم استيعابه ضمن "بند العطالة"، الذى ابتكره وزير المالية الاكثر شهرة الشريف حسين الهندى فى احد حكومات الزعيم الازهرى. وبموجب هذا البند فى موزانة البلاد أمكن ايجاد فرص عمل استفاد منها الاف الشباب عبر البلاد، كان ضمنهم "السفير"، وكان يزور الوالد ايضا "بابكر سليمان"، الذى كان يعمل فى احد مشاريع بحر ازرق، وهو بن خالة السفير. فكانا يجتمعان فى الصالون ولكنها سرعان ما ينخرطان فى مناقشات حامية ترتفع فيها الاصوات، لم اكن أدرى ماهية القضايا موضوع الخلاف. ولكن الارجح انها قضايا سياسية لا أدرى كان حزب الامة منشقا على نفسه جناح للامام الهادى والاخر لاحمد المهدى او هكذا تراءى لى.
ومن الزيارت زيارة للاخ اسماعيل اسحق الذى كان لحظتها طالب فى كلية الهندسة جامعة الخرطوم. وتصادف ان أصابته حمى شديدة ارتفعت درجة حرارته ارتفاعا شديدا أشفق الوالد عليه من وطئتها، وسنار معروفة بامطارها الشديدة وهى على ضفة النيل الازرق خلف بحيرة الخزان.
ومن الشخصيات التى تزور الوالد ابن اخته ابراهيم رحمه حامد، والدته فاطمة آدم جامع الابنة الوحيدة لابيها الذى تركها بدارفور وآثر اقتفاء اثر اخوانه الذين توفوا وتركوا اسرهم ابناء وبنات من بينهم الوالد بالجزيرة أبا. ابراهيم رحمة شاب متطلع الى الحياة يتمتع بقدر من الذكاء يمكنه من تدبير امور معاشه عبر اعمال تعتبر هامشبة منها بيع الكتب منها ميزان لقياس اوزان الانسان....الخ. وهو لم ينل تعليما نظاميا سوى الخلوة، ولكنه شديد التعلق بالحياة المدنية. ويحكى عن نفسه انه ذات يوم وهو يجلس فى مقهى، يرى الناس يشترون الصحف اليومية ويطالعونها باهتمام شديد، فأعجبه المنظر، وحاول ان يفعل كما يفعل الآخرون. فاشترى جريدة، وخلف رجل على رجل وطلب شاى وفى يده الجريدة، ففتح الجريدة كيفما اتفق لانه لا يعرف قراءة الجرايد من أصله – ففتح الجريدة عاليها سافلها – ما دفع احد الجالسين بجواره تنبيهه الى ان الجريدة مقلوبة، فتظاهر بعدم الانتباه ثم استعدلها ولكنه غادر المكان أو كما تروى القصة .
بعد عام من وجود الوالد بسنار وقع انقلاب هاشم العطا 1971، وهو حدث مهم لاسيما فى مدينة عريقة مثل سنار، التى سيرت مسيرات هادرة باعلام حمراء فى مساندة الانقلاب. وكان لنا جار ممرض اسمه كوكو شديد الولاء للفكر الشيوعى لعله كان من المحتفين بهذا الحدث المهم. ولكن الفعالية التى أذكرها جيدا هى معرض اقامه الشيوعيون بنادى عمال الرى عرضوا فيه حياة لينين وصور لكارل ماركس ولحيته الكثة ولوحات متعددة لابد انها كانت تعرض الفكر الماركسى والتطبيق اللينينى له. وكان الوالد شديد الاهتمام بأخبار الانقلاب ولكنه على دراية تامة بطبيعة الانقلاب ومناصروه، ولذلك لم يكن منشرحا له بطبيعة الحال، على الرغم من الانقلاب كان ضد جعفر النميرى المفترض ان الانصار على ثار معه.
لم تطل إقامة الوالد فى سنار بعد ذلك. حيث انه عند تعيينه طلب التعيين فى مدينة كوستى التى لا تكلفه عناء تكاليف ايجار منزل للسكن. ولكن انه لم يستجب لطلبه غير انه ظل موعودا بالنقل الى كوستى او الى منطقة يكون فيها تسهيل للسكن. وقد صادف مطلع السبعينات  بعد ذهاب حكومة الصادق المهدى وتسنم جعفر نميرى السلطة، ان تمت مراجعة يبدو لهيكل الاصلاح الزراعى ليصبح المؤسسة العامة للانتاج الزراعى. فى هذا الاثناء تم نقل الوالد الى بورتسودان حيث المكتب المسئول عن استلام مدخلات الانتاج الزراعى من خيش واسمدة ....الخ الى داخل البلاد ومن ثم الى المشروعات الكبرى، ما عدا مشروع الجزيرة الذى له إدارة مستقلة باسم "الجزيرة بورد"،.
بورتسودان 1972-1979 
وعندما وطأت قدما الوالد المدينة التى كان السفر اليها بالقطار نزل ب "فندق الحرمين" فى سوق المدينة، والاسرة لا تزال بسنار. واستلم العمل بمكتب المؤسسة بوسط المدينة الى الشرق من السوق. ولم يتمكن من استئجار منزل بالسرعة المطلوبة، فتقدم احد زملائه ويدعى "محمد صالح الشايقى" يعرض على الوالد استغلال منزله حيث ان اسرته "فى البلد"، فى إجازة. فتمكن الوالد من استقدام الاسرة من سنار ونزلت الاسرة بمنزل الشايقى ب "ديم الشاطئ" الى ان وجد الوالد منزلا فى نفس الحى رحلت اليه الاسرة، وكان المنزل بجوار رجل الاعمال المعروف المرحوم " بكرى أبو شامة".
تم قبولى بمدرسة البحر الاحمر الثانوية نهاية 1974، ومحمد عمر بجامعة الخرطوم والبقية فى مراحل التعليم العام. لم يجد الوالد مشقة فى إلحاق الاطفال بالمراحل التعليمية كما كان الامر فى سنار، حافظ شريف التحق بمدرسة "باوارث" الثانوية  بعد عامين من قدوم الوالد. وفى ديم الشاطئ تعرف الوالد على عدد من ابناء دارفور من بينهم جارنا المرحوم محمد آدم الدومة الذى صار فيمابعد المدير العام للجمارك وأخيه ابراهيم آدم الدومة وابراهيم بحر رحمهم الله جميعا، وكانوا يمثلون الطليعة المتعلمة من أبناء ام كدادة. وتعرف على الكشاف المخضرم "أبونا آدم الصاوى" من قادة الكشافة الكبار. وبدأت تتوسع معارفه مع مرور الزمن فى المدينة. وفى محيط العمل كان هناك "إبراهيم سبيل"، و"فضل كتر تتى قنو" والاخيرين من الاقارب.
وتعتبر بورتسودان معبر الحجاج الى الحج، من أبرز الحاجات اللواتى أدين فريضة الحج مرورا كانت الجدة الحاجة المرحومة فاطمة حسن مسبل، والحاجة حلوم بت سليمان، والحاجة المرحومة بت حمد وخيرة هى جارتنا بمدينة كوستى. ومر عبر بورتسودان واهتم الوالد لعبوره الاخ عبد الرحمن ابراهيم أحمد وكان لحظتها جنديا فى القوات المسلحة. عسكروا فى بورتسودان فى الميناء الجنوبى تنامى الخبر الى الوالد، فذهب الى الميناء الجنوبى يسأل عن عبد الرحمن ابراهيم ولم يجده ولكن معلومات الوالد كانت أكيدة بوجوده ضمن هذه القوة. وأتضح أخيرا انه موجود ولكن اسمه المعروف هو الصادق أما عبد الرحمن فهو الاسم الاسرى.
وبما ان الميناء كانت فيه مناظر خلابة لاسيما البواخر البحرية كان الوالد يصطبنا جميع الاسرة سيرا على الاقدام الى الميناء الذى فيه مقاهى تقدم المشروبات على الساحل فى الامسيات كنوع من الترفيه فى هذه المدينة الغريبة. غريبة حتى اللغة إذ ان للمدينة لهجة هى خليط من لهجات المجموعات السكانية المحلية والمجموعات القادمة عبر البحر "الحضارمة" والمجموعات القادمة من شمال السودان وتلك القادمة من غرب السودان او غرب افريقيا.
برزت لدى الوالد رغبة فى الاستزادة من تعلم اللغة الانجليزية التى بدأ تعلمها فى امدرمان، فالتحق بمعهد الاستاذ "ناجى"، وهو مدير مدرسة باوارث الثانوية "مدرسة التى يختلف اليها حافظ شريف"، وهو من اشهر الشخصيات من أصول حضرمية، كان معروفا بالانضباط الشديد فى الحياة عموما يشبهه البعض بالخواجات. يحكى انه عندما توفيت والدته وتمت مراسم الدفن ذهب فى اليوم التالى الى المدرسة ليباشر عمله، لم ينتظر جموع المعزين كما هى خصال غالب أهل السودان.   ومعهد استاذ ناجى كان ضمن معاهد  كانت تنتشر فى بورتسودان لتعلم اللغة الانجليزية  فى المدينة التى تحط عليها بواخر تجارية من كل بقاع الدنيا.  ولا تزال معظم المستندات الرسمية مروسة باللغتين العربية والانجليزية.
ومن تأثير الاقران أبناء الدومة وابراهيم بحر بدأ الوالد يكثر من الاطلاع على كتب الفقه والتاريخ. فكانت لديه كتب المسعودى وسلاطين باشا وعدد من كتب الحديث، وكنت أقرأها له بصفة يومية بعد تناول وجبة الغداء. اجتهد فى تعلم تجويد القرآن وكان يحكى القصص فى الذين يعلمون الناس القرآن وألسنتهم الاصلية ليست العربية، لاسيما الشيوخ من دارفور ومن شرق السودان او شمال السودان. والمعروف ان بعض اللغات تختلف فيها الحروف. ذلك ان لغة الوالد الام (لغة الزغاوة)، أقول لغة وليست لهجة او رطانة، ليس فيها حرف "الفاء" مثلا، لو طلبت من أحدهم ان ينطق كلمة "فروة" لنطقها "هيروة" وذلك لخلو هذه اللغة من حرف الفاء. غير ان الوالد كان مجيدا للغته الام إجادة تامة وكان بارعا فيها بشهادة مجايليه، كما هو بارع فى اللغة العربية، وهذه محاولاته لتعلم اللغة الانجليزية. ويبدو حرصه على التعلم والعلم فى تحرى ذلك فى الابناء، فقد كان مهتما بتذليل الصعوبات التى تواجهنا فى سير الدراسة.
ولذلك كان لصيقا بالمدارس والمعلمين، عندما علم مثلا ان هناك كتابا غير موجود بالمدرسة فى الادب الانجليزى وهو مادة مهمة فى امتحان الشهادة السودانية لنا فى القسم الادبى. ذهب بنفسه الى السوق وعبر معارفه تحصل على كتاب Cry the Beloved Country”" وجاء الى المدرسة وسأل عن استاذ "محفوظ" استاذ المادة، ,أخبره انه تحصل على الكتاب فأكبر ذلك فيه استاذ محفوظ غاية الاكبار. وعندما تم قبولى فى "جامعة جوبا"  1977 بعد خمسة أعوام من توقيع إتفاقية أديس أبابا، كان ذلك صعبا عليه ذلك ان جوبا فى ذلك الزمان كانت لا تزال صورة الحرب مرسومة فى العقل السودانى. ولكنه عندما علم ان ليس من ذلك بد نصحنى نصيحة أخيرة فى الجانب السياسي فى النشاط الجامعى قاال لى: "فى الجامعة ياابنى هناك صراع بين الاخوان المسلمين والشيوعيين، ونحن أنصار ان كان لابد من عمل سياسي فلا تكن مع الشيوعيين".
وفى سانحة فريدة قام كل من شمس الدين الدخيرى، ومجدى موسى، وعفاف شريف ومحمد بابكر، وآمال موسى، قاموا بزيارة الى بورتسودان وهم ابناء اخوات واخوان الوالد. وكانت الزيارة تمثل تواصلا استثنائيا لمدينة بعيدة بكل المقاييس  فى أقصى شرق السودان ، لفتيه فى أعمار تتراوح بين 13-15 عاما. وقد سر الوالد سرورا بالغا بهم فهو خال البعض وعم البعض وجد البعض الاخر.
فى العام 1976 حدثت المواجهة المسلحة المعروفة ب "أحداث المرتزقة"، التى قادتها الجبهة الوطنية فى الخرطوم. وقد كان لها آثار بالغة فى كافة ارجاء السودان، فالاعلام الحكومى صورها بصورة جعلت منها غزو خارجى اشترك فيه مرتزقة، بينما الواقع ان المنفذين للعملية هم سودانيون أغلبهم من حزب الامة الذى أغلبه من غرب السودان. وعليه فان الوطئة الامنية كانت ثقيلة على ابناء غرب السودان فى سائر انحاء البلاد. وبورتسودان كان فيها مجموعات كبيرة من ابناء غرب السودان. ومن جراء ذلك اضطر الاخ بابكر بشر عبد الله جامع (ابن أخ الوالد) المعروف ب "بير" قطع كل المسافة الى بورتسودان لاستخراج شهادة جنسية، لكثرة الاشتباه به من السلطات الامنية وتوقيفه، لا سيما وانه تعرض لاعتقال عقب الاحداث مباشرة.
فى السنوات الاولى للوالد فى بورتسودان تعرف الوالد الى شاب يعروف ب "يوسف الحبشى" وهو يوسف احمد عبد الرحمن ، كان والده فيما روى لى الوالد يلقب ب "احمد 13"، وهو شقيق اصغر لمحمد صالح عبد الرحمن وشريف عبد الرحمن من أهلنا فى الجزيرة أبا. ويبدو ان أحمد والد يوسف خرج من الجزيرة أبا من فترة باكرة الى اثيوبيا وتزوج بوالدة يوسف التى تزوجت من بعد ذلك وانجبت أخوان وأخوات ليوسف. كل الذى يعرفه يوسف ان والده متوفى وأنه سودانى ومسلم. والدته أتت به الى بورتسودان وهو بعد صغير، فى ظروف هجرة الاثيوبيين وأستقر بها المقام فى بورتسودان. وعاشت حياتها مثل سائر الاثيوبيات ويبدو ان معها أخوات أتين الى السودان. وبالطبع فان لغة يوسف العربية ذات لهجة اثيوبية تتماشى مع الوسط الذى يعيش فيه. كان ليوسف أبناء خالات، ويذكر الوالد ان يوسف اراد ذات يوم ان يعرف الوالد بأحدهم، ولم يجد فى قاموس اللهجة الاثيوبية  تعبير يدل على "أبن الخالة" او لعله استشكل عليه، فقال للوالد بعد فترة " هذا الشاب هو ابن بنت حبوبتى والدة أمى".
 كانت رغبة يوسف  وهوايته ان يعمل بحارا كما هى رغبة سائر الشباب فى بورتسودان المدينة الساحلية التى ترسو فيها السفن من كل بقاع الارض. وعندما ينزل البحارة الى المدينة يستحوذون على إعجاب الشباب، بملابسهم المختلفة، وبما يحملون من قصص أسرار البحار ومغامراتها. ويبدو أنه يتوجب على يوسف استخراج اوراق ثبوتية تمكنه من استخراج جواز سفر ليعمل فى البحر. فما كان من الوالد الا ان اصطحبه الى كوستى حيث عمه شريف عبد الرحمن لكيما يتمكن من ذلك.
وفى هذه الاثناء تمكن الاخ عبد الله شريف الحصول على بعثة دراسية الى المجر وكان قد بدأ دراسته فى كلية الهندسة جامعة الخرطوم بعد ان أكمل عامه الاول حالت ظروف مرضية دون جلوسه لامتحان ما، فآثر مواصلة دراسته خارج السودان وحالفه التوفيق. وتم قبول محمد عمر الابن الاكبر للوالد فى جامعة الخرطوم، وفائز فى جامعة جوبا. واهتم الوالد اهتماما كبيرا بتخرج الاخت أميرة شريف من كلية المعلمات الابيض، وقد كانت فعلا من النابهات من بين دفعاتها وأحرزت موقعا متقدما بينهن. ولم نلبث حتى زف الينا الوالد خبر خطبة الاخت عفاف شريف الى الباشمهندس اسماعيل اسحق الذى كان الوالد يجله ويقدره ويعتبره من الابناء البررة.
وبحلول العام 1979 تم نقل الوالد الى مدينة كوستى التى طالما اجتهد ان ينقل اليها، بعد ان قضى نحوا من سبع سنوات بمدينة بورتسودان وأنجب فيها الاخت عواطف عمر  أما تاريخ الميلاد فيطلب منها شخصيا. وكنت فى ذلك الاثناء بجامعة جوبا فى عامى الثانى او الثالث، وكانت حكومة جعفر نميرى مهتمة أشد الاهتمام بجامعة جوبا التى دعمت إنشاءها "السوق الاوربية المشتركة" والتى تطورت فيما بعد الى الاتحاد الاوربى.
كوستى 1979-1993 مؤسسة النيل الابيض الزراعية
انتقل الوالد والاسرة الى مدينة كوستى وسكن فى منزله بحى النصر مربع "7"، بعد ان أرهقته إجارات المنازل فى كل الاماكن التى عمل بها. وتمكن بالسرعة اللازمة من توفيق الأوضاع التعليمية للبنات فى مراحل التعليم العام، أما محمد وفائز فكلاهما بالمراحل الجامعية، وشريف فى الصف الثانى او الثالث الاساس. وتعتبر كوستى مدينة مهمة للوالد من حيث قربها للجزيرة أبا مكان نشأته وحيث تعيش والدته وشقيقته مريم وسائر الاهل والاقارب، ويسكن فيها الجد عبد القادر حسن مسبل ( خال الوالدة)، وكذلك قربها من ربك التى تعيش فيها اسرة المرحوم العم شريف، وكذلك عبد الله خميس واسرته وهو ابن اخ الوالد، ومحمد صالح عبد الله وأسرته وهو ابن أخت الوالد، وعبد الله سبيل وآدم سبيل، واسحق ابراهيم فى قلى. إذن فالوالد قد عاد الى موطنه وأهله.
استلم الوالد مهامه فى مؤسسة النيل الابيض الزراعية وهى فيما يبدو نتاج لتقسيم للمؤسسة العامة للانتاج الزراعى الى وحدات أصغر، منها مؤسسة جبال النوبة، ومؤسسة النيل الازرق...الخ. عمل الوالد بالقسم الحسابى ثم أسندت اليه مهام فى محلج ربك لفترة ثم عاد مرة أخرى الى قسم المخازن بكوستى. مؤسسة النيل الابيض مؤسسة تستوعب عمالة كثيفة كل المشاريع على ضفاف النيل الابيض م وانشطتها الزراعية والهندسية والحسابية. وبرز فى النشاط النقابى قائد عمالى فذ هو المرحوم "ابراهيم اسماعيل شوقار" الذى ترأس نقابة العمال لدورات عديدة، وكانت له شعبية كبيرة على امتداد هذه المشاريع، وذاع صيته فى كل ارجاء الاقليم وحتى المركز الخرطوم.
فى هذه المدينة تخلص الوالد من عبء ايجار المنزل، ولكنه خسر مصدر دخل كان يأتى من إيجار المنزل نفسه، وهو ما كان يستغله الوالد لدفع مصروفات والدته بالجزيرة ابا. ووالدته "خادم الله بت نيل" فقدت بصرها فى الجزيرة أبا وقد ذهبت تحتطب فى الحقول شرق أرض الشفاء، وعندما همت بحمل الحطب على رأسها كما هى عادة النساء، أصاب عود صلب أحدى عينيها وكانت لوحدها، فتمالكت نفسها وحملت الحطب الى المنزل لتجد روضة آدم وهى بعد طفلة فحكت لها ما حدث. وتقول روضة ان أمى ظلت راقدة لمدة عشرين يوما بهذه الحال، ولا معالج ولا طبيب. وبعد هذه الفترة عميت العين الاولى وتبعتها بعد فترة العين الثانية.......... وعليه ففى الفترة الاولى كان الوالد يعانى من محدودية الدخل الذى لم يكن يكفى للالتزامات المتزايدة لإعالة الاسرة وتعليم الاطفال. فكان الوالد ِشأنه شأن سائر الموظفين ذوى الدخل آحادى المصدر  يستدين من بعض التجار مبالغ لمقابلة هذه الالتزامات منهم جمعة محمد نعيم من أهالى قلى او الطويلة  التاجر المقيم بكوستى والذى تربطه به صلة صداقة. وفى هذه الفترة التحقت إخلاص بوظيفة طابعة بالمؤسسة ساعدت فى مقابلة بعض احتياجات الاسرة.
ومعلوم ان علاقات  الوالد فى كوستى هم من قدامى معارفه من ابناء المنطقة وزملاء العمل والاهل. وفى حى النصر ربطته علاقة قوية جدا ب "آدم النورعقيل" وهو من المهندسين من ذوى الخبرة الطويلة الممتازة فى العمل المكانيكى الخاص بوابورات الرى الرافعة العاملة فى المشاريع الزراعية ويعتبر مرجعا مهما فى هذا الامر وقد طبقت شهرته آفاق المنطقة فى إجادته لمعالجة الاعطال التى تعترى هذه الوابورات لا سيما وانه على معرفة بأجيال هذه الوابورات المستوردة من بريطانيا، وعلى معرفة بتوليف قطع اسبيرات لهذه الوابورات بعقلية مدهشة. وكذلك من ربطتهم علاقة قوية العم  "ذا النون" وهم جميعا من ابناء الجزيرة أبا، والاخير من الموظفين الذين عملوا فى الحكومة فى فترات ثم تقاعد الى المعاش غير انه كان مستقرا فى منزله بالنصر مربع "8" بجوار المهندس آدم النور.
وعندما استمر الوالد فى عمله فى السلك الحسابى افتتحت مدرسة كوستى الفنية كورسا قصيرا فى العمليات المحاسبية التحق الوالد بها رغبة فى تطوير قدراته فيها، وفى الحقيقة ربطها اكاديميا لانه قد مارس هذا العمل على مدى طويل، حاجته فقط هى الى شهادة من جهة علمية فى هذا الموضوع. ويحكى انه بنهاية الكورس عقدت المدرسة امتحانا لهم تمهيدا لتقويم الاداء لكل منهم، يقول الوالد انه فى أثناء الامتحان استاذن للخروج لاداء صلاة العصر، وقد سمح له المراقب بذلك نظرا لاعتبارات كثيرة منها عمره وأشياء أخرى، ولكنه جلس بعد الصلاة لفترة طويلة كعادته وبالطبع لم ينبهه المراقب بان للامتحان زمن معين، وعندما عاد للامتحان لم يلبث حتى آذن المراقب بنهاية الزمن المتاح للامتحان، ويبدو انه لم يفرغ من الاجابة على الاسئلة كما هو مطلوب منه.
أنجبت الوالدة الاخت الصغرى مها وكنت لحظتها طالبا فى جامعة جوبا، وعندما بلغنى الخبر سررت أيما سرور، وأبلغت زملائى ومنهم من يكبرنا سنا. فاستغربوا للخبر ولاحتفائى به، فاستوضحونى...أولدت أمك أم أختك..؟...بل أمى.. فزادت دهشتهم.. ولكنى لم أدر لم الدهشة. ولكنى الان أستطيع أن أفسر.. الزملاء الذين معى فى الجامعة على الاقل الذين استوضحونى كانت أعمارهم كبيرة لان الجامعة يمكن أن تلتحق بها فى اية عمر..هؤلاء الزملاء توقفت أمهاتهم عن الولادة بحكم السن..لكن تلد أخواتهم. هذا مما لم أستطع أدراكه ذلك الزمان. والان كما تلاحظون ليس هناك ذكر لاية سنه حدث هذا، ولكن يطلب من مها وهى الان أُم لاطفال أن تفصح أو لا تفصح عن سنة الميلاد.

وفى أثناء وجود الوالد الاخير بكوستى انجز عدد من الزيجات منها زيجة عفاف شريف الى اسماعيل اسحق، وزيجة محمد عمر الى نجاة عبد الله خميس، وزيجة فائز عمر الى آمال موسى، وزيجة اخلاص عمر الى محمد شريف صالح، وزيجة سمية عمر الى عبد الرحيم محمد صالح وسامية عمر الى صديق محمد نور. وبالطبع كان طرفا فى عدد آخر من الزيجات فى الاسرة الممتدة.

المشكلات الصحية والوفاة
بدا الوالد يشتكى من آلآم التهاب المصران والذى استمر معه الى عدة سنوات، تلقى فيها علاج فى مستشفى سوبا الجامعى بالخرطوم والذى عمل فيها محمد عمر لفترة.  بما ان المرض يعتبر من الامراض المزمنة فقد تعامل فيه مع عدد من الاطباء فى كوستى وربك والخرطوم. وفى فترة لاحقة ظهرت عليه أعراض مرض السكرى لفترة وجيزة ثم اختفى واوقف د.جامع علاج السكرى. وفى المرض الاخير تم تحويله لتلقى العلاج بمستشفى المناطق الحارة بامدرمان، وكانت الحاجة فاطمة حسن موجودة اما الوالدة فكانت بكوستى. فى المستشفى تدهورت صحته وفى احدى المرات طلبت المستشفى بعض الفحوصات كان لابد من اجرءاها خارج المستشفى بسوق الشهداء، فحملته اخواتى الى المعمل الخارجى، ولاجراء الفحص كان عليه ان يتجرع ثمة سائل ربما مساعد لاجهزة الفحص والكشف، فسبب له صدمة أدت الى وفاته فى الحال. وكان ذلك فى يناير 1993.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق